مفوضية العدالة الانتقالية

موجز الاخبار

مفوضية العدالة الانتقالية

 

 د. مصعب عوض الكريم علي ادريس

   مفهوم العدالة الانتقالية مفهوم حديث نسبياً، نشأ في التسعينيات بعد سقوط النظم الديكتاتورية في شيلي والارجنتين. وهو يعني مجموعة من الإجراءات التي من شأنها أن تؤدي في النهاية لتعزيز الديمقراطية والسلام في البلدان التي كانت ترزح في ظل نظام ديكتاتوري أو حروب ونزاعات داخلية نتج عنها انتهاكات واسعة للقانون الإنساني الدولي. والعدالة الانتقالية لا تعتبر نوع من أنواع العدالة، وانما أسلوب من الأساليب التي تتضمن إلى جانب العدالة الجنائية، إنشاء لجان المصالحة والحقيقة والتعويض وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات القضائية والعدلية وأجهزة إنفاذ القانون.

   الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019م تعديل 2020م نصَّت على إنشاء عدة مفوضيات مستقلة، تُشكل هذه المفوضيات ويُحدد اختصاصها وفق القوانين التي تنشأ بموجبها. ومن بين هذه المفوضيات "مفوضية العدالة الانتقالية" التي صدر قانونها بتاريخ 24/04/2021م باسم قانون مفوضية العدالة الانتقالية لسنة 2021م ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 17/07/2021م العدد رقم (1917) وأصبح ساري المفعول من تاريخ التوقيع عليه كما نصَّ القانون نفسه على تاريخ سريانه.

تهدف المفوضية حسب القانون إلى تحقيق العدالة الانتقالية بوضع الإطار المفاهيمي للعدالة الانتقالية والآليات والتدابير المناسبة لكشف حقيقة الانتهاكات ومساءلة ومحاسبة المسئولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة المجتمعية والوطنية ... الخ. ومن الملاحظ أن قانون مفوضية العدالة الانتقالية تأخر كثيراً أي صدر بعد -ما يقارب الثلاث سنوات -من ثورة ديسمبر، علماً بأن هذا التأخير في حد ذاته قد يكشف مدى توفر الإرادة السياسية في الدولة لتحقيق العدالة الانتقالية وإرساء دولة المؤسسات التي تقوم على سيادة حكم القانون وضمان عدم الإفلات من العقاب، علماً بأن المجتمع الدولي في حالة مراقبة لمؤسسات العدالة الانتقالية في جميع دول العالم ليرى ما إذا كانت الدول التي انشأت مؤسسات وقوانين للعدالة الانتقالية ستلتزم وتوفي بوعدها أم لا.

   القانون نصَّ على إنشاء مفوضية مستقلة، وانشاء المفوضيات المستقلة يجب ألا يكون عن طريق– السلطة التنفيذية – يفترض وجود "مجلس أعلى للمفوضيات" يُكوَّن من شخصيات وكوادر عاملة في مجال العمل القضائي والعدلي، يتمتع هذا المجلس بسلطات وصلاحية ترشيح أعضاء مفوضية العدالة الانتقالية، ومن ثم يتم اعتماد التعيين من المجلس السيادي حتى تكون المفوضية مستقلة عن جميع السلطات في الدولة سواء كانت تنفيذية او تشريعية او قضائية. ذلك لضمان قيام المفوضية بأعمالها واستخدام سلطتها وصلاحياتها على نحو يحقق العدالة الانتقالية. إذ لا وجود للاستقلال في ظل اختيار أعضاء المفوضية وتعيينهم من قبل مجلس الوزراء بناء على توصية من وزير العدل، ومجلس الوزراء هو الجهة التي تحدد مخصصات وامتيازات رئيس واعضاء المفوضية. ولأن الجهة التي تملك حق التعيين هي التي تملك حق العزل، وفقاً لنص المادة (15) من قانون تفسير القوانين والنصوص العامة لسنة 1974م التي نصت على انه: (إذا كانت سلطة التعيين مخولة بموجب أحكام أي قانون يكون للسلطة التي تملك حق التعيين الحق أيضاً في وقف أو عزل أي شخص عينته استعمالاً لسلطتها ما لم ينص على خلاف ذلك). فان رئيس واعضاء المفوضية إذا خافوا من العزل لا يستطيعوا ان يؤدوا واجباتهم وفق القانون وبصورة مستقلة.

   قانون مفوضية العدالة الانتقالية فوَّض "المفوضية" بعد انشائها بإعداد مشروع (قانون العدالة الانتقالية) واشترط أن يتضمن القانون المقترح مشتملات وأطر محددة وواضحة، على أن يُسلم القانون إلى مجلس الوزراء والذي بدوره يحيله خلال خمسة عشر يوم من تسلمه الى السلطة التشريعية الانتقالية لإجازته. وكما هو معلوم أن السلطة التشريعية الانتقالية في الوقت الحالي يمارسها مجلسي (السيادة – الوزراء) بصفة استثنائية الى حين تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي. بالتالي فإن مشروع "قانون العدالة الانتقالية" المقترح يكون صادراً من السلطة التنفيذية، والسلطة التنفيذية نفسها هي التي تساهم في اجازته كتشريع. وهذا وضع معيب ومريب لا يخدم العدالة بشيء. علماً بأن مساهمة السلطة التنفيذية في التشريع في ظل دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م الملغي أستثنى منها التشريعات التي تمس وثيقة الحقوق والتشريعات الجنائية. علماً بأن القوانين الصادرة من مجلسي السيادة والوزراء تعتبر قوانين استثنائية تمس الحقوق والحريات العامة باعتبارها صادرة من سلطة تنفيذية في غياب سلطة التشريع الاصلية وغياب المحكمة الدستورية التي تفصل في دستورية القوانين والتشريعات.

   من الملاحظ أيضا أن قانون المفوضية ركَّز بشكل أساسي على موضوع "العزل السياسي" للذين تقلدوا مناصب في فترة حكم النظام السابق وهو ما نصت عليه الوثيقة الدستورية، حيث ورد ذلك في المادة (5/ب/ رابعاً) شروط تعيين رئيس وأعضاء المفوضية. وبما أن مفوضية للعدالة الانتقالية من مهامها اعداد مشروع قانون العدالة الانتقالية، وإجراء مسح أولي لانتهاكات حقوق الانسان وتحديد أصحاب المصلحة والاشراف على انشاء آليات العدالة الانتقالية مثل لجان الحقيقة واليات المحاسبة وجبر الضرر والإصلاح المؤسسي لأجهزة العدالة. فالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان لم ترتبط بالنظام السابق فحسب، بل هنالك انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان تمت في بدايات حكومة الفترة الانتقالية منها "احداث فض اعتصام القيادة العامة" وأحداث أخرى في عدد من المدن والولايات، فالعدالة الانتقالية يجب ألا ترتبط بمرحلة زمنية محددة، طالما أن انتهاكات حقوق الانسان مستمرة ونرغب في تحول ديمقراطي يؤسس لحكم القانون. فالوصول الى الديمقراطية والسلام العادل يحتاج الى ارادة سياسية واعية، ودولة تقوم على مؤسسات حكم رشيدة. ولأن "العدالة الجنائية" جزء من سياسات واساليب "العدالة الانتقالية"، فإن نجاح مفوضية العدالة الانتقالية وقيامها بالمهام الموكلة اليها يتطلب انشاء هياكل السلطة الانتقالية وعدم اختزال مفهوم العدالة الانتقالية في مرحلة زمنية محددة. لا نستطيع الحديث عن اصلاح المؤسسات القضائية والعدالة في غياب هياكل السلطة الانتقالية المتمثلة في (المحكمة الدستورية – مجلس القضاء الاعلى – مجلس النيابة العامة – المجلس التشريعي)، وان اختزال العدالة الانتقالية في حقبة سياسية محددة لن يؤدي الى نجاحها. الرؤية الشاملة هي التي تعبر بالبلاد الى بر الأمان.

   يقع على عاتق سلطات الدولة خلال الفترة الانتقالية السعي الحثيث والمضي في اتخاذ اجراءات قضائية وملاحقة مرتكبي انتهاكات حقوق الانسان لضمان عدم الافلات من العقاب وضمان استقلال مفوضية العدالة الانتقالية وحيادية اعضائها لتحقيق اهدافها. علما بان هناك فجوة كبيرة بين ما هو مطلوب وما هو واقع، نرغب في عدالة انتقالية في ظل غياب مؤسسات وهياكل الدولة الانتقالية التي تساهم في تطبيق وانفاذ سياسات المفوضية وقانون العدالة الانتقالية، يظل قانون المفوضية حبر على ورق مالم تتوفر الارادة الجادة المصحوبة برغبة في تحول ديمقراطي حقيقي وعدالة مشهودة، وأن يتم استغلال الفترة الانتقالية لتأسيس وترسيخ مفهوم العدالة الانتقالية حتى تأتي حكومة ما بعد الفترة الانتقالية ويكون الطريق امامها ممهداً نحو تحقيق مفهوم العدالة الانتقالية.

📌 اصدارات للمؤلف : د. مصعب علي عوض الكريم ، يمكنك شراء مؤلفات د.مصعب من هذه الروابط:

(1) "الشركة ذات المسئولية المحدودة وفقا لنظام الشركات السعودي" بالضغط هنا .

(2) "جراءات الافلاس وفقا لنظام الافلاس السعودي ولائحته التنفيذية‎" بالضغط هنا
📌لمتابعة جميع المقالات و الاخبار و الوظائف القانونية عبر قروبات "وعي قانوني" انضم لاحد القروبات بالضغط هنا ⚖️ أو للمتابعة عبر تطبيق "خدمات قانونية" قم بتحميله بالضغط هنا
♻️ شارك المنشور تكرما ♻️

 📌لمتابعة جميع المقالات و الاخبار و الوظائف و الدورات التدريبية القانونية عبر قروبات "وعي قانوني" انضم لاحد القروبات

 بالضغط هنا ⚖️ أو للمتابعة عبر تطبيق "خدمات قانونية" قم بتحميله بالضغط هنا

♻️ شارك المنشور تكرما ♻️
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -